الثلاثاء  08 نيسان 2025

عمر حمّش [1] في "مفاتيح البهجة": رؤيا واضحة بشعريّة عالية

2025-04-08 01:44:04 AM
عمر حمّش [1] في

تدوين-فراس حج محمد

"مفاتيح البهجة" (حيفا، 2022) هي العمل الثاني الذي أقرأه للروائي عمر حمّش بعد مجموعته القصصية "فخاخ الكلام" (رام الله، 2013) [2]، وتأتي الرواية بعد عشر مجموعات قصصية، في القصة القصيرة، والقصيرة جدا، وهي الرواية الثالثة بعد روايته "الخروج من القمقم" (اتحاد الكتّاب الفلسطينيين، 1992)، ورواية "في حزيران قديم" (غزة، 2000)، وهما روايتان قصيرتان لا تتعدى الأولى ستاً وسبعين صفحة، والثانية خمساً وسبعين صفحة.

والناظر في تركيبة الإبداع لدى الكاتب عمر حمّش يراه يميل إلى القصة القصيرة، وتسيطر عليه تقنياتها في الكتابة، فرواية بهذا العدد من الصفحات- ابتداءً- مع أن عدد الصفحات ليس عاملا حاسما في التجنيس، تميل في تصنيفها الأدبي نحو القصة الطويلة أو "النوفيلا". وفي هذه الرواية، وهي رواية قصيرة كذلك، إذ تقع في حدود (114) صفحة، موزعة أحداثها على أربعين فصلا قصيراً، وتسيطر على تركيبتها السردية منطق القصة القصيرة، وتقنياتها السردية، وخاصة تقنيات كتابة القصة القصيرة جداً، ولا يعني هذا بحال من الأحوال أنها رواية قصة قصيرة أو متتالية قصصية، إنّما ما أعنيه هو أن الصنعة الكلية في الرواية، لغة وإيقاعاً، وأحداثاً وشخصيات غير مضاءة روائياً، تتكئ كلها على تقنيات السرد القصصي، أكثر من كونها عناصر سرد روائيّ. كما سيأتي بيانه لاحقاً.

من هذا الباب، أرى أنّها رواية مهمة، وتكمن أهميتها في أمرين؛ في تقنياتها السرد- لغوية، وشعريتها العالية، وفي مقولاتها السياسية، كما أنها تطرح من جديد أسئلة الخلاص الفلسطيني، وتنحاز بوضوح إلى خيار المقاومة المسلحة.

يظلّ دالّ العنوان "مفاتيح البهجة" شبه غامض أو مراوغ، إذ لا تجد في البنية النصيّة أي إشارة صريحة له، بتعبيره الكامل "مفاتيح البهجة". ربّما استنتج الدارس دلالته أو دلالاته من عموم الرواية بعد الانتهاء من قراءتها. فما المقصود بمفاتيح البهجة؟

في البداية أشير إلى أن الكاتب ربما كانت عينه على الآية (60) من سورة النمل، حيث قوله تعالى: "أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا ۗ أَإِلَٰهٌ مَّعَ اللَّهِ ۚ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ"، فصاغ عنوان روايته على هداية من التعبير القرآني "حدائق ذات بهجة". هذا التعبير القرآني الذي احتلّ واجهة كتابين ليصبح عنواناً لكلّ منهما؛ أحدهما للشيخ عائض القرني (1998)، والآخر للشيخ محمد يونس بالنبوري (2010). هذا التشابه- نوعاً ما- بين الكتابين وبين رواية عمر حمّش يحيل الدارس إلى ظاهرة التناص العنواني؛ أي تشابه تلك العناوين، وتأثر اللاحق بالسابق، وقد لا يعدو كونه اهتداء قريحة دون أن يكون هناك تأثر، اهتداء بسبب التأمل أو الموضوع أو ما شاكل[3].

لعل ما في التركيبين من تناظر في الجمع بين مفاتيح وحدائق ودالّ البهجة ذاته، مع أنه اختلف تعريفا وتنكيرا، هذا التناظر يجعل الإحالة إلى الآية ممكنة، وربّما تكون ذات وجه في الاستدلال، فما في الآية من موضع البهجة، وما تشير إليه من خيرات، سيجد القارئ له مثيلا في فلسطين قبل أن تصاب بداء الاحتلال والتهجير، فقد تحدث السارد من خلال حواره مع أمه في الفصل الأول عن موسم "سيدنا الحسين"، وما كان يصاحبه من خيرات تفيض بها فلسطين، من كل صنف ولون، عدا ما كان يسود الناس من محبة ووئام، تقول أم السارد عن تلك الفترة في هذا الموسم بعد أن تحدثت عن صنوف الخير المادي، واصفة نوعاً آخر من البهجة؛ إنها البهجة النفسية: "أما أهالي المجدل؛ فيبدؤون بتبادل الأطباق المحمّلة، والناس تهنّئ الناس، والنسوة يقبّلنَ النسوة، وهم في أعظم يوم". هذه البهجة تغيرت، لذلك فإن أم الطفل تختم حديثها بتنهيدة قائلة: "كل هذا يا ولدي؛ قبل نكبتنا، وقبل أن يطردونا إلى المخيّمات". (يُنظر الرواية: ص9 وص10)

إذاً، فالبهجة متعلّقة بالمكان في كلا النصين، القرآني، والرواية، كأنّ فلسطين هي "حدائق ذات بهجة"، ولن تتحقق تلك البهجة إلا بمفاتيح منذورة أو مقدرة لها؛ مفاتيح بيوت اللاجئين في فلسطين المحتلة 1948، لذلك اكتسبت هذا التعريف فأصبحت "مفاتيح البهجة"، فدالّ المفتاح/ المفاتيح ذو تعلّق بالمكان أساساً.

إنها بهجة مستدعاة، كما في النص السابق، أو بهجة موعودة كما سيأتي لاحقا، أما الأحداث الروائية وزمانها فلا تشير إلى أية بهجة من أي نوع، فالسارد المشارك في الأحداث، الطفل ذو الأربعة عشر عاماً، اللاجئ القادم من مجدل عسقلان إلى مخيم جباليا، يسرد رحلة شقاء عائلته، وعائلات الفلسطينيين الذين هُجّروا من بيوتهم، وما كابدوه من معاناة خلال رحلة التهجير القسري، وخلال إقامتهم في المخيم، وصولا إلى عام 1967 وعام النكسة، واحتلال غزة. على الأرجح أن زمن الأحداث يتناول السنة الأخيرة لحرب الأيام الستة، وتوظف تقنية الاسترجاع (Flash Back)؛ لترصد الحياة في فلسطين ما قبل الاحتلال الأول، وما بعده؛ الزمن الواقع بعد النكبة عام 1948، وصولا إلى النكسة عام 1967.

يربط الروائي بين هذه الأزمنة بخيط روائي سردي دقيق، متصل، وإن نسج حبكته على امتداد فصول غير متتابعة في الزمن والحدث، إذ يحاول الروائي عمر حمّش أن يقدم رؤيته وقناعاته بعيدا عن لغة الخطاب المباشر، فاختار طريقته هذه المفتتة على أربعين فصلاً سرديا قصيراً، وأغلب الظن أن العدد أربعين لم يكن مجرد صدفة كتابية، أو رغبة في اكتمال عدد ما ليقف عند هذا الحد القاطع، إنما يؤشر- من وجهة نظري- إلى رؤيا مكتملة في النظر إلى القضية الفلسطينية، منذ النكبة وحتى الرؤيا للخلاص من الاحتلال.

ما يثير الدهشة أن العدد الأربعين يشير إلى نضج الرؤيا، استنادا إلى رؤيا الأنبياء، وبلوغهم الأربعين عاماً، كعمر للتكليف وحمل النبوة، تكون هذه النبوة مكتملة في الفتى ذي الأربعة عشر ربيعاً، السارد، فما هي سمات هذا السارد في هذه الرواية؟ وما هو دوره؟

يتمتع هذا الفتى- غير المعروف اسماً- بعدة سمات تؤهله لأن يكون ساردا أولا، وبطلا ثانيا، وثالثاً حاملا للرؤى الفكرية التي يراها الكاتب؛ فهو طالب ذكي، مشاكس، مراوغ، يحب الخطابة واللغة العربية، ذو رغبة في المغامرة، يتبع حدسه، يحلم كثيراً، عاشق، ومحب، خدوم، ولا يهاب، وفيه نزعة من التمرد، يفكر فيما وفيمن حوله، عاش المأساة، وعايشها مباشرة من أمه وأبيه وجدته.

هذه السمات تؤهله لمهمة أكبر من مجرد السرد، لقد ابتدأت به أحداث مهمة، أو ابتدأت بعمره (14) عاماً أحداث مهمة، ثمة إشارة لذلك في المشهد الثالث من الرواية، فقد لفتت انتباهه شواهد القبور في المقبرة، "وعدنا نقرأ الشواهد، ونحسب الأعمار، سبعون، ثلاثون، اثنتا عشر، أربعة عشر". هذا كان بذات عمري". (ص13) وعندما احتلت غزة عام 1967 خرج الرجال من سن 14 وحتى الستين، على ما يبدو أنه ما زال في هذا العمر أو بعده بعام على أبعد تقدير سنة النكسة. لقد حولته هذه الحادثة إلى رجل، فكل الذكور الواقعين بين هذين العمرين هم مطلوبون ليكونوا هناك، حيث بركة المجاري؛ ليتجمعوا، لينظر الضابط في أمرهم. هذا عمر مهم إذاً، وعزز ذلك عندما خاطبه صديقه وزميل دراسته محمد الهواري وسأله: أين أنت يا رجل؟ لقد أثارت تفكيره كلمة "رجل" وأعجبته. (ينظر: ص 110)

يحضر المخيم بكثافة في هذه الرواية، وخاصة مخيم جباليا، وإلى حد ما مخيم خانيونس، مخيمان ضما أهالي مجدل عسقلان، في هذا المخيم نقرأ كيف يفكر أهل فلسطين اللاجئين، كيف ينظرون إلى الأحداث، وكيف يفسرونها. نقرأ أيضا وصفا لبيئة المخيم، وبيوت الناس فيه، ونقرأ عن أحلامهم وانكسارهم، وأملهم في العودة إلى ديارهم التي هُجروا منها، بل إن بعضهم عاد، ليطالهم التهجير مرة أخرى، ظلوا حالمين بالعودة متمسكين بأوراق الطابو وبمفاتيح بيوتهم في المجدل، مجدل عسقلان.

تتعلق بهذه المفاتيح آمال الناس، فربما كانت هي "مفاتيح البهجة"، لأن الناس كانوا ينظرون إليها بوصفها مفاتيح لبهجة ستتحقق يوما بالرجوع من حيث أتوا، لم يفقد أهل المخيم بهجتهم بهذه المفاتيح، مفاتيح بيوتهم.

هذا تفسير محتمل، ويكاد يكون مباشرا في هذه الرواية، إذ ترد المفاتيح هذه كثيرا في متن الرواية مع الجيل الذي خرج من بيته وتركه عنوة. لكنّ هذه الدلالة تتعاضد مع دلالة أخرى رمزية، وأكثر شعرية وروائية، وهي البندقية الذي مثلها في الرواية "الكارلو" الذي تسلمه محمد الهواري، ليصبح فدائياً، يجوب أزقة المخيم مناضلاً، متابعاً خطى الشهيد الفدائي سرحان. لهذه الدلالة ما يؤيدها في النص؛ فالناس كانوا يترقبون الحرب ويعلقون عليها آملا كثيرا، وشكلوا جيش التحرير، وعلى الرغم من هزيمتهم وانكشاف أمر عناصر هذا الجيش وترحيلهم إلا أنهم لم يفقدوا الأمل بالبندقية، أي لم يفقدوا الأمل بالمقاومة، إن البنادق هي "مفاتيح البهجة" التي تحقق أمل عودة الناس إلى بيوتهم التي خرجوا منها لاجئين، ولذلك انتهت الرواية نهاية مفتوحة الأفق نحو خيار المقاومة المسلحة التي مثلها معلم اللغة العربية الذي هو معلم السارد، والعلاقة بينهما علاقة ذات بهجة أيضاً، فالسارد الفتى الطالب يحب معلمه هذا، ومعلمه يحبه، "أطلق معلمي كمسيح... أطلق، وكان كمن يطلق حزننا، ومع كل إطلاقة كان يشعل أرواحنا، ويعيد إليها أنفاس الحياة". (ص114: نهاية الرواية)

بل إن المعلم كانت تتجسد فيه المقاومة النموذجية المثالية التي يلمّح إليها الروائي عمر حمّش، ويمكن أن يستنتجها الدارس من خلال سير الأحداث وتطورها؛ مقاومة ترتكز على الوعي التام بأهمية المقاومة أولا، ثم المقاومة المبنية على العلم، فقد أوصى المعلم السارد بأن "ادرس جيدا". (ص111) عدا أن هذا المعلم يناقض الاحتلال في لغته العبرية، فهو يمثل العربية كهوية مناقضة لهوية الاحتلال، إضافة إلى أنه خطيب مفوه، وقائد يصلح لقيادة الجماهير. لقد تجمعت في هذا المعلم الصفات المطلوبة للقائد المقاوم الناجح، إضافة إلى أنه شخص غير ثرثار، ومهتم بمتابعة الأخبار السياسية، وقد أثرّت فيه كثيرا هزيمة حزيران، لكنه لم يغرق في لجة اليأس والضياع، بل كان قادرا على أن يجد سبيله ليكون فدائيا ومقاوماً، ومعلما ليس في المدرسة فقط، بل معلما في مدرسة النضال.

اجتمع في هذه الرواية جيل من شهدوا النكبة، فأصابهم اليأس أو كادوا إلا ذوي الوعي منهم، ثم أبناؤهم المؤسسين للثورة والعمل المسلح الذي مثلهم- عدا معلم اللغة العربية- المشكلون لجيش التحرير، ثم الفتيان الصغار أمل المستقبل الذين سيواصلون عمل المؤسسين ليحققوا أمل اللاجئين في العودة ليكونوا هم أيضاً "مفاتيح بهجة" محتملة وضرورية. لقد جاء هذا في النص: "اسمع. لا تنتظروا أحدا خارج حدودنا. تذكر، تناسلوا فقط، املؤوها من البحر إلى النهر، افهم. زوجوا بناتكم بصبيانكم وسلموهم الطابو، والمفاتيح، إلى يوم، يقضي فيه الله بيننا". (ص99) كما زادت النكسة من اعتماد الفلسطيني على نفسه من أجل تحرير وطنه، بعد أن انكسر العرب وانهزموا شر هزيمة في حزيران عام 1967، وهذه رؤيا أخرى من رؤى الكاتب الواضحة في هذه الرواية.

ثم يعود ليؤكد هذه النبوءة بعد ما ترك الحنتوت المخيم إلى عمّان. يعلّق السارد على عمله قائلا: "ترك أمه، وتركنا، لن يكبر الحنتوت في مخيمنا، ولن يتزوج، لينجب معنا صبيانا، وبناتا، على أرضنا الممتدة ما بين النهر، والبحر". (ص100) إن البقاء في فلسطين والتزاوج وإنجاب الأطفال، بحدّ ذاته هو عمل مقاوم، إنه يناقض عمليا الإدعاء الصهيوني بأن هذه الأرض لا شعب فيها، وهو أحد مرتكزات الصهيونية الكاذبة، لتكون فلسطين لشعب بلا أرض. هذا يعني أيضا أن تفريغ فلسطين من سكانها جريمة، سواء أكان بعمليات مبرمجة احتلالية أم بعمليات السلام وتبادل الأراضي، أم اختيارا، أم نفيا، أم قسراً، في هذا السياق يُفهم كيف كانت الحافلات تقلّ الناس مجاناً إلى الضفة الأخرى من النهر، إلى عمّان. (ينظر الرواية، ص 100).

هذا السياق غير منفصل بحال من الأحوال عن خطاب أبي السارد للسارد عندما كان يقول له: "مد يا ولد" (ص94)، أو قول الملاك الذي تخيله يتحدث معه ويقول له: "امض يا صغير"، وهو الكلام ذاته الذي يتخيل أن الشهيد الفدائي سرحان يقوله له: "امض، امض يا ولد" (ص84). فالأب والملاك والشهيد كلهم يطالبونه بالفعل ذاته: مِدْ أو امضِ. إنهم يعولون عليه، وعلى أبناء الجيل الكثير من الآمال والتوقعات، ليكونوا هم مفاتيح البهجة الحقيقية التي تطرد عار الهزائم وانكساراتها.

في هذه المقولة يستجمع عمر حمش الرواية الاحتلالية، ويقذف في وجهها ما قام به السارد، وما قام به محمد الهواري وما قام به المعلم، فالصغار لن ينسوا وإن مات الكبار، كما أنه يقدم رؤيا مهمة جدا بعدم تفريغ الأرض، بل إن حمّش يرى أنه بكثرة التوالد على هذه الأرض هزيمة للمشاريع الاحتلال.

إنه يقرأ روائيا ما يخطط له الاحتلال، وكيف يفسر زيادة السكان الفلسطينيين، وأنها تهدد بالفعل وجوده، فقد أصبحوا أغلبية أو كادوا في عموم أرض فلسطين التاريخية، إن القنبلة الديمغرافية هي الأخطر على الاحتلال من أي مشاريع مقاومة أخرى. هكذا تقول الرواية، وهكذا هي بالفعل هواجس الاحتلال، وما يعقده من مؤتمرات لمناقشة هذا الهاجس، وما يطرحه من حل يعكس هذه النزعات التي تؤرقه، فسنّ القوانين المتعددة التي تعطي الدولة؛ دولة الاحتلال، أحادية العرق أو الهوية، فسنوا قانون يهودية الدولة، وغيرها من القوانين الأخرى التي تمنع منح "الجنسية" للفلسطيني المتزوج من امرأة تحمل جنسية دولته.

لقد قالت هذه الرواية الكثير من الأفكار، وألمحت إلى العديد من الرؤى، ووظفت في ذلك اللغة السردية سريعة الإيقاع، فما يميز البنية السردية أنها مبنية على إيقاع السرد المتشكل من الجمل الفعلية القصيرة التي تتعالى أحيانا في شعريتها لتصبح أقرب إلى لغة الشعر منها إلى لغة النثر، قائمة على التوتر العاطفي، والتكثيف والتسارع السردي والحذف والتقديم والتأخير، لاسيما في نهاية يعض المشاهد السردية، كما هو في نهاية المشهد الثاني على سبيل المثال: "وأمضي بحذر، لأعاكس الدبابير الهابطة، لتعلق دسم الرؤوس، والقشور الفضية". (ص12)، وكذلك الحال في آخر المشهد (ص27) وأحيانا توجد هذه اللغة خلال الفصل نفسه كما جاء في قوله: "واشتعل رأسي، ورأيت البلاد على كفي تموجُ، وفي الضجيج سال دمعي". (ص59)

في الحقيقة، إن مثل هذا كثير في هذه الرواية المكثفة اللغة والرؤيا، فالتقديم والتأخير لغير حاجة سردية، كما هو واضح في كثير من جمل السرد التي تجنح نحو الشاعرية والتصوير الفني، إنما هي تقنية شعرية نابعة من حاجة نفسية، تفرض نفسها على لغة الكاتب لتوازي حالة شعرية يحسها لحظة كتابة هذه الفصول، أو التماهي مع تلك الحالة الحاصلة، وهو يكتب لتتصاعد عنده العاطفة فينسى الحالة السردية ويخرج منها إلى حالة شعرية.

أظنّ أنّ هذه الحالة اللغوية التي اكتسبتها لغة الرواية لم تكن فقط بسبب هذا التماهي العاطفي مع الحالة الروائية الدافعة للخروج من حالة السرد إلى حالة الشعر، وإنما قد تكون بسبب ما اكتسبه الروائي من لغة مكثفة من خلال كتابته للقصة القصيرة جداً، هذه القصص التي قد يكون للغتها أحيانا تقنيات بناء الجملة الشعرية من حذف وتكثيف وتقديم وتأخير، واعتماد على التلميح والابتعاد عن المباشرة، والتلاعب بالنص ولغته واستخدام علامات الترقيم بكثرة لتعبر عن المعنى الحاضر في الذهن لحظة الكتابة، هذا المعنى الذي قد لا يشعر به القارئ إلا إذا استطاع النص أن يدخله إلى حالة الكاتب المشابهة في توترها العاطفي. إنها تحيل إلى قوانين من اللغة النفسية التي قد تكون لها انزياحات خاصة، لكنها لا تصل بطبيعة الحالة إلى الانزياحات المطلوبة أو الكائنة في اللغة الشعرية.

واستكمالاً لارتباط الشعر بالسرد في هذه الرواية، يوظف الكاتب- عدا مقاطع من لغته الشعرية- بعض المقاطع الشعرية من الشعر الشعبي الفلسطيني الذي يترنم فيه الناس في مناسبات الفرح، كما هو في حفلة ختان محمد الهواري، حيث تحضر أمثلة من غناء الرجال والنساء.

ويبدو هذا وذاك غير مبتعد أيضا عن شخصية السارد الطفل الحالمة، إذ يمر بلحظات شعرية محلقة في الخيال، تكاد تقارب اللوحات السوريالية أو الفنتازية الممتزج فيها الحب، حب الطفل السارد لنعيمة بحب يافا والوطن عموماً، وتخيلها في عدة مشاهد. لقد كانت هذه المشاهد متوافقة مع حالة السارد وتطور علاقته بنعيمة، ففي أول لقاء بها، بعد فترة من اصطدامه بها عن غير قصد في أحد أزقة المخيم، يسحبها من حفلة الختان وينزويان، فيرسم هذا المشهد الشعري الرومانسي: "لم أتكلم، ولم تتكلم، كنا فقط حلّقنا، وطفنا لثوانٍ عبر طيات غامضة، لا تفهم؛ قبل أن تفلت كفيها صامتة، وتنسلّ عصفورة". (ص43) ثم تتطور به هذه الحالة من الخيال ليصل إلى هذه المشهدية: "فكنا على ذراع ريح؛ أصعدتنا، حتى امتطيانا غيمة مرسلة؛ فكانت بساطا صهل، فأمسكنا لجاماً، وطفنا". (ص46) وتعود له هذه الحالة مع نعيمة أيضا في موضع ثالث، حيث يقول: "وتعمق الليل؛ حتى أسحمت، وغرقت ملتذّاً، حتى ظهرت قبالتي، اهتززت لذراعها؛ التي امتدت... صحت، أو كدت، وهي تسحبني؛ وخطوت على الريح كمن عبّ خمراً، فارتوى حتى انفصل". (ص69) لعلّ الناظر في هذه المقتبسات الثلاثة والمتأمل في لغتها وصياغتها سيرى كم فيها من اللغة الشاعرية وتقنياتها.

إن في هذه الرواية قدرا كبيراً من الصنعة الروائية المكتملة في أدواتها السردية التي أهلتها لنسج رواية متماسكة سرديا بحبكتها التي شدت فصولها الأربعين برباط لغوي واحد بإيقاع متوافق مع الأحداث، وربما استطاعت بهذا المتن السردي المكثف القصير ذي الإحالات الزمنية المرتدة، والمتعمقة في الحاضر والتمعن فيه ودراسته، والتشوّف إلى المستقبل أن تقول ما لم تقوله روايات بمئات الصفحات.

ولعلّ هذا ما يميّزها، ويكسبها أهمّيّة خاصة مضاعفة ضمن خريطة السرد الفلسطيني المعاصر، وخاصة السرد المصنف ضمن الأدب المقاوم، وإعادة ثيماته إلى الحياة، وإلى واجهة الكتابة والتلقي، فقد أعادت هذه الرواية الاعتبار لهذا الأدب الذي خفت حقبة من الزمن بفعل اتفاقيات أوسلو وتأثيراتها السيئة، ليس في الواقع السياسي وحده، بل في الأدب والأديب الفلسطيني كذلك.

ربما سيشهد هذا الأدب عودة نضرة، لاسيما وأن كثيرا من الدعوات الداعية إلى السلام سقطت، وصار خطابها مملا ومثيرا للشفقة والسخرية، وبعد أن قلب الاحتلال ظهر المجنّ للسلطة الفلسطينية، فلم تعد أكثر من مجرد كيان هزيل سياسيا واقتصاديا، انحصرت مهامه في كونه كياناً أمنياً يأتمر بأمر الاحتلال، كيان مثير لمشاعر البؤس واليأس في نفوس الفلسطينيين، فغدت بلا سلطة سوى سلطة إدارة مدنية تساعد ضباط أمن الاحتلال على إحكام سيطرتهم علينا، إضافة إلى ما يحدث على أرض الواقع من أحداث مقاومة في عموم مناطق الضفة أو حروب في غزة، تعزز من نظرة الروائي عمر حمّش وغيره من الكتاب الذين أخذوا يجسدون هذه الحالة وينحازون إلى المقاومة ويعززونها فيما يكتبون، كما في روايات وليد الهودلي، ورواية أحمد رفيق عوض الأخيرة "الحياة كما ينبغي"، والروايات القادمة من بطون المعتقلات، وخاصة ما كتبه بعض كتاب اليسار، أو ما كتبه الكتاب الإسلاميون، ليتسلّم الأدب دوره في إحداث توازن نفسي ومشاعري مهمّ يؤثر إيجابيا في المتلقي الفلسطيني، ويعبّر عن رؤاه وأحلامه وأمانيه، ورغبته في الانعتاق والتحرر، بعيدا عن وهم السلطة الفلسطينية، واندماجا مع "سلطة المقاومة" التي أصبحت أكثر قدرة على فهم المعادلة، وتحقيق الكرامة الوطنية والعدل الإنساني.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

[1] روائي وقاصّ، ولد سنة 1953، وعاش في مخيّمات اللجوء في غزّة، وأحد مؤسّسي اتّحاد الكتّاب الفلسطينيّين.

[2] يُنظر مقال: فخاخ الكلام للكاتب عمر حمّش ومصيدة الواقع واللغة، من كتاب: ملامح من السرد المعاصر- قراءات نقديّة في القصّة القصيرة جدّاً، موزييك للترجمات والنشر والتوزيع، الأردنّ، 2015، ص66-68.

[3] ناقشت هذه القضية في مقال خاصّ بعنوان "العناوين والتناص والإمكانيّات الإبداعيّة"، جريدة الشعب الجزائرية، عدد (18707)، الخميس 11 نوفمبر 2021، ص19.